وقفات مع القائلين بالاحتفال بالمولد

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

لقد قرأت عددا من الرسائل المرسلة عن موضوع الاحتفال بالمولد النبوي الشريف على صاحبه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وكنت مصمما على عدم الرد في هذا الباب، حتى كثرت الرسائل على الخاص وبعض المجموعات، وقد رأيت أن أوضح بعض الأمور ليس إلا، فأقول وبالله أستعين:
إن القول بعدم الاحتفال بالمولد هو فهم السلف الصالح من الصحابة والتابعين، وليس فهمنا نحن حتى نؤاخذ عليه، فقد ترك الاحتفال الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين.
كما تركه التابعون وأتباع التابعين وأئمة الحديث كالبخاري ومسلم والدارقطني والنسائي وابن خزيمة والترمذي ومن كان في طبقتهم.
كما تركه الأئمة الفقهاء كالأوزاعي والثوري وأبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد.
وتركهم لقضية دينية وعدم اعتبارها مع قيام المقتضي لفعلها يدل على أنهم عن علم وقفوا وعن دراية تركوا. ومن المقتضي لفعلها في عصرهم:
أولا : عظيم حبهم له صلى الله عليه وسلم.
ومنها؛ أنهم أهل الاستنباط والفقه، وحقهم أن يستنبطوا هذا الحكم لو كانوا يرون الاحتفال مشروعا، بل إن أمير المؤمنين في الحديث محمد بن إسماعيل البخاري وهو من هو في استنباطاته الدقيقة لم يفهم من الأحاديث التي يستدل بها القائلون بالمشروعية ما يدل على ذلك.
هذا فضلا عن أئمة الفقه في الدين.
فقضية دينية يجري على تركها أهل تلك العصور مع ازدهار العلم والفقه والاستنباط من القرآن والحديث في عصرهم مع قيام المقتضي لفعلها، ليدل دلالة واضحة على أي حال تركوها. ثم هو فهمهم تابعناهم عليه وليس فهمنا، إلا أن يأتي من يقول ليس للسلف فهم، وهذا اتهام باطل لا نرضى أن يُنسب إلى من هو دونهم فكيف بأهل العلم من الصدر الأول.
ومن المعلوم أن ترك ما أجمعوا على فعله كحكم فعل ما أجمعوا على تركه.
وأحكام التّرْكِ استمدها العلماء من حديث الثلاثة الذين سألوا عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فكأنهم تقالّوها ..الحديث..
وقد علق ابن القيم على هذا الحديث بقوله: فعل ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم كترك ما فعله. يقصد الترك الديني.
ثانيا : بعدما رأيت البعض يتهمنا بتضليل وتكفير من يحتفل بالمولد اقتضى أن نبين أننا دائما نؤكد في دروسنا ولطلابنا وجوب التفريق بين القول والقائل، والفعل والفاعل، فإذا قال العلماء في أي قضية: هذا بدعة أو هذا كفر؛ لا يلزم أن يكون الفاعل مبتدعا أو كافرا، لتفريق أهل السنة بين الإطلاق والتعيين.
ثم نحن من أبعد الناس عن أن ينسب التكفير إلى معين من المسلمين، ونترك الحكم على المعين إلى أهل العلم الراسخين، أو إلى أهل الاختصاص كالمحاكم الشرعية التي من حقها أن تستتيب قبل أن تحكم.
وهذا بخلاف خصوم أهل الحديث الذين كفّرونا وكفّروا مشايخنا في القديم والحديث، كالهيثمي والكوثري مع شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. ولا يخفى الهجمة التكفيرية من بعض الجهات المعاصرة، بل من بعض المدارس الدينية الرسمية في لبنان.
ثالثا: ثم لا بد من التفريق بين المسائل الفقهية العملية التي يسوغ فيها الخلاف وبين المسائل المنهجية التي تخالف في القضايا الدينية ما أطبقت عليه القرون المفضلة التي مدحها نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله: خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. وهذه الخيرية هي خيرية علم وعمل لأنه مامن شك أن من كان قرنه أفضل أن يكون أعلم لأن التفضيل هنا تفضيل ديني لا مهني صناعي.
رابعا: لنا أن نسأل المجيزين للاحتفال؛ هل أنتم عذرتم المخالف لكم في هذه القضية فحملتم قولهم على المحمل الحسن؟ أم ضللتموهم وكثير منكم حكم عليهم بأنهم لا يحبون النبي صلى الله عليه وسلم؟!!!
خامسا: ثم إن مفهوم البدعة لا يؤخذ عنا ولا عنكم، وإنما يؤخذ عن أصحاب العصور المفضلة ومما ورد عنهم في فهمهم للبدعة:
قال ابن عمر رضي الله عنهما: (كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة). رواه محمد بن نصر في السنة (٢٤) واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (٩٢/١).
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة). اللالكائي (١ / ٥٥- ٨٨) والدارمي (٢٢٣) والبغوي في شرح السنة (١/ ٢٠٨).
وقال أيضا: (اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم). رواه أبو خيثمة في العلم (٥٤) والبغوي في شرح السنة (١/ ٢١٤).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما لرجل قال له أوصني: (عليك بتقوى الله والاستقامة؛ اتبع ولا تبتدع). شرح السنة للبغوي (١/ ٢١٤).
وقال أُبَيّ بن كعب رضي الله عنه: (إن اقتصاداً في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة). اللالكائي (١/ ١٥٤).
وقال الأوزاعي رحمه الله: (اصبر نفسك على السنة وقف حيث وقف القوم، وقل بما قالوا، وكف عما كفوا، واسلك سبيل سلفك الصالح فإنه يسعك ماوسعهم). المصدر السابق (١/ ١٥٥).
وقال سفيان الثوري رحمه الله: (لا يستقيم قول وعمل إلا بمو افقة السنة). ميزان الاعتدال للذهبي (١/ ٩٠) وأبو نعيم في الحلية (٧/ ٣٢) وابن الجوزي في تلبيس إبليس (٩).
وإذا أردنا أن نعرف تطبيقهم لهذا التقعيد الذي قعدوه مما يدل على فهمهم نتأمل هذه الآثار عنهم لنتبين فهمهم للبدعة:
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلا عطس الى جنبه فقال: الحمد لله والسلام على رسول الله، فقال ابن عمر: وأنا أقول الحمد لله والسلام على رسول الله، ولكن ما هكذا علمنا رسول الله، علمنا أن نقول: الحمد لله على كل حال. رواه الترمذي (٢٧٣٨) بسند حسن. فقد أنكر ابن عمر الزيادة على المشروع مع أنها مستحسنة في المنطق العقلي، ولكن لما فهم أن القضايا الدينية توقيفية أنكر عليه وعلّمه السنة في هذه الحال.
ومنها: (أن ابن عمر يدخل مسجدا قد ثوّب فيه المؤذن التثويب المبتدع -وهو أن يقول على باب المسجد قبل الإقامة: الصلاة الصلاة، ثم يدخل فيقيم- فخرج ابن عمر وقال: أخرجتني البدعة) رواه أبو داود (٥٣٨) وفي رواية أنه قال: اخرج بنا فإن هذه بدعة. وانظر الترمذي (٣٣) في المواقيت.
ومنها : أن ابن مسعود رضي الله عنه لما رأى قوما حِلَقا في المسجد يسبحون الله بالحصى قال لهم: (إما أنكم على ملة أهدى من ملة محمد أو مفتتحوا باب ضلالة) رواه الدارمي (١/ ٦٨) بسند حسن.
ومنها : أن سعيد بن المسيب رحمه الله رأى رجلا يصلي بعد طلوع الفجر أكثر من ركعتين، فنهاه، فقال الرجل: يا أبا محمد يعذبني الله على الصلاة؟ فقال سعيد: لا ، ولكن يعذبك على خلاف السنة) رواه البيهقي وصححه الألباني في الإرواء.
وأما ما ورد عن أهل العلم من ذم البدعة عموما:
١- ما نقله ابن الماجشون عن الإمام مالك أنه قال: (من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً خان الرسالة لأن الله يقول: {اليوم أكملت لكم دينكم}، فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا). الاعتصام للشاطبي (١/ ٦٢) تحقيق مشهور آل سلمان.
وقال ابن كثير رحمه الله: (وباب القربات يُقتصر فيه على النصوص ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء). تفسير ابن كثير (٤/ ٢٧٦) سورة النجم.
وقال الحافظ الذهبي: (كل ما أُحدث بعد نزول هذه الآية {اليوم أكملت لكم دينكم} فهو فضلة وزيادة وبدعة). سير أعلام النبلاء (١٨/ ٥٠٩) .
وقال الحافظ ابن حجر: (البدعة في عُرف الشرع مذمومة بخلاف اللغة) فتح الباري ( ١٣/ ٢٥٢ و٢٥٤).
وقال الحافظ ابن رجب: (ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية). جامع العلوم والحكم (٢٣٣).
سادساً: وأما الاستدلال باجتهاد بعض الصحابة رضي الله عنهم في زمن النبوة، فقد اتفقت مصادر تاريخ الفقه الإسلامي على أنه لا يثبت اجتهاد للصحابة رضي الله عنهم في زمن النبوة، وما ثبت من اجتهادهم في عصره صلى الله عليه وسلم فإما أن يكون أقرّهم على اجتهادهم فيكون من السنة التقريرية، وإما أن يكون أنكره عليهم فلا خير حينئذ في اجتهاد يخالفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتبين أن ما أقرهم عليه صار له حكم السنة المرفوعة، ولو لم يقرهم عليه لما ثبت به حجة لأنه لا عبرة بالاجتهاد في عصر النبوة، وإنما يحتج بالاجتهاد بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، والصحابة بعد وفاته أنكروا البدع في الدين، فظهر الفرق.
سابعاً: وأما الاستدلال بحديث بلال رضي الله عنه أنه كان يحافظ على ركعتي السنة بعد الوضوء، فإنما ألزم بلال ٌ نفسه بما ثبت بالسنة النبوية من حديث عثمان رضي الله عنه مرفوعاً: (من توضأ نحو وضوئي هذا ثم قام فركع ركعتين…) الحديث أخرجه البخاري (٦٤٣٣) ومسلم (٢٢٦). فدل على أن بلالاً استحق هذا الجزاء العظيم لمواظبته على الركعتين بعد الوضوء لا أنه شيء من اجتهاده رضي الله عنه.
كما أنه يندرج تحت عموم الأمر بالتنفل بالصلاة كما في سنن النسائي. انظر حديث رقم (٥٧٢)، سنده صحيح.
ثامناً: وأما الاستدلال بعموم النصوص فلا يُسعف على البدعة لأن الصحابة أنكروا هذا النوع من الاستدلال على الأمور المحدثة كقول ابن عمر لمن عطس فقال: الحمد لله والسلام على رسول الله، قال ابن عمر: وأنا أقول الحمد لله والسلام على رسول الله ولكن ما هكذا علمنا رسول الله. أي في هذا الموضع ما هكذا علمنا، مع أن السلام على النبي صلى الله عليه وسلم يندرج تحت عموم قوله {صلوا عليه وسلموا تسليما}، ومع ذلك فقد فهم ابن عمر أن باب القربات يُقتصر فيه على النصوص الخاصة في بابها ولا يُتصرف فيها بأنواع الأقيسة والآراء.
وهكذا في الزيادة على الأذان بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، يستدلون بعموم الأمر بالصلاة عليه، وقد ورد عن بلال رضي الله عنه قال: (آخر الأذان: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله) رواه النسائي (٦٤٩)، وورد مثله عن أبي محذورة، والأسود. انظر سنن النسائي (٦٥١ و ٦٥٢). وأسانيدها صحيحة.
تاسعاً: وأما الاستدلال بحديث: (هذا يوم ولدت فيه وأُنزل علي فيه)، فقد ورد بسبب بيان استحباب صيامه، وهو صيام كل اثنين وليس 12 ربيع الأول. وهل فهم هذا الفهم أحد من أصحاب القرون المفضلة؟ ولنا أن نسأل سؤالاً: ماذا لو وقع 12 ربيع يوم السبت الذي نُهينا عن صومه بغير الفريضة هل كان يصومه أو يعتبره؟
فدل على اقتصار الاستدلال به في العبادات على ما شرعه لنا ببيان سببه، وهو صوم يوم الاثنين من كل أسبوع ولا يختص بـ12 ربيع الأول.
عاشراّ: وأما الاستدلال بالتخفيف عن أبي لهب لأنه أعتق جاريته ثويبة فرحاً بمولده صلى الله عليه وسلم، فإنه فرح بولادته وكون فرحه وقع في 12 ربيع الأول شيء اتفاقي ولا يلزم منه جعل اليوم ذكرى، لأن هذا الفهم لم يفهمه الخلفاء ولا العشرة المبشرين بالجنة ولا أهل بدر ولا أهل بيعة الرضوان ولا أزواجه ولا التابعون وأتباعهم مع أنهم يعظمون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويفرحون به وبسنته فرح عبادة وطاعة وتعظيم أكثر من فرح أبي جهل بمولده الذي يوصف بأنه فرح طبعي جبلّي.
حادي عشر: أما الاستدلال بسَنّ عثمان رضي الله عنه الأذان الثاني الذي كان في الزوراء في السوق لما اتسعت المدينة، فهذه سنة خليفة راشد التي أُمرنا باتباعها بقوله صلى الله عليه و سلم: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي).
ثاني عشر: وأما ما ورد من كلام الإمام الشافعي رحمه الله وكذلك العز بن عبد السلام رحمه الله من تقسيم البدعة، فمرادهم البدعة اللغوية كالربط وإنشاء المدارس واصطناع المعروف والاشتغال بالعربية وتدوين الأحاديث وتأسيس قواعد الفقه وأصوله، فهذه وأمثالها البدعة الحسنة كما مثّل العز رحمه الله بذلك في كتابه قواعد الأحكام في مصالح الأنام (٢/ ٣٣٨) طبع الريان.
والشافعي رحمه الله تعالى أنكر الاستحسان وقال: (من استحسن فقد شرع) وعقد في كتابه الأم فصلاً بعنوان: إبطال الاستحسان، وقال في الرسالة (٥٠٧): (وإنما الاستحسان تلذذ). فكيف ينسب له القول باستحسان البدع والمحدثات في العبادات. ولو استحسن البدع وقعّد لها لوجب أن يوصله اجتهاده إلى التفريع عليها.
ثالث عشر: وأما حديث: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) فقد رواه البخاري أيضا بلفظ: (ما ليس فيه) حديث (٢٦٩٧).
والاحتفال بالمولد ليس في شريعته صلى الله عليه وسلم.
رابع عشر: ثم ما هو مفهومكم للاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم؟
بإنشاد النشيد وتوزيع الحلوى وبتفاخر البعض على البعض وجعله موسما للاستقطاب الجماهيري وحشد الناس؟
أم أن الفرح به وبشريعته يكون باتباعه والتأسي به وبسنته صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم}.
وحسبنا أننا نحتفي به في كل وقت وحين باتباع سنته صلى الله عليه وسلم، وأسوتنا بذلك الخلفاء الراشدون والصحابة والتابعون، والأئمة الفقهاء والمحدّثون، من ينطبق عليهم وصف أهل السنة لأنهم بها معتصمون وعنها يصدرون.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد القائل: (وكل محدثة بدعة)، والقائل: (وإياكم ومحدثات الأمور)، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

كتبه الفقير إلى عفو ربه
المتمسك بهدي نبيه صلى الله عليه وسلم
خادم العلم بمجمّع الإمام البخاري
سعد الدين بن محمد الكبي.